فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: إن إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه فوضعه على يده، فجعل ينقره ويطن، وينقره ويطن، فقال: إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبرًا. هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، وكان أبوه يحبه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب، وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب؟؟؟.... قال: فجعل بعضهم ينظر إلى بعض، ويعجبون أن هذا الجام ليخبر خبرهم، فمن أين يعلم هذا؟!
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي الجلد رضي الله عنه قال: قال يوسف عليه السلام لإخوته: إن أمركم ليريبني، كأنكم جواسيس قالوا: يا أيها العزيز إن أبانا شيخ صديق، وأنا قوم صديقون، وإن الله ليحيي بكلام الأنبياء القلوب، كما يحيي وابل السماء والأرض، ويقول لهم- وفي يده الإِناء وهو يقرعه القرعة- كأن هذا يخبر عنكم بأنكم جواسيس.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عون قال: قلت للحسن رضي الله عنه ترى يوسف عرف اخوته؟ قال: لا والله ما عرفهم حتى تعرفوا إليه.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {فعرفهم وهم له منكرون} قال: لا يعرفونه.
وأخرج أبو الشيخ عن وهب رضي الله عنه قال: لما جعل يوسف عليه السلام ينقر الصاع ويخبرهم، قام إليه بعض اخوته فقال: أنشدك الله أن لا تكشف لنا عورة.
{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {ائتوني بأخ لكم من أبيكم} قال: يعني بنيامين، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: {وأنا خير المنزلين} قال: خير من يضيف بمصر.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وأنا خير المنزلين} قال: خير المضيفين.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد رضي الله عنه: {وأنا خير المنزلين} قال يوسف عليه السلام: أنا خير من يضيف بمصر.
وأخرج سعيد بن منصور، عن إبراهيم أنه كان يقرأ: {وقال لفتيته} أي لغلمانه: {اجعلوا بضاعتهم} أي أوراقهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن إسحق قال: كان منزل يعقوب وبنيه فيما ذكر لي، بعض أهل العلم بالعربات، من أرض فلسطين بغور الشام. وبعض كان يقول بالأدلاج، من ناحية شعب أسفل من جسمي، وما كان صاحب بادية له بها شاء وإبل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن المغيرة، عن أصحاب عبد الله: {فأرسل معنا أخانا نكتل}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن ابن جريج، رضي الله عنه-: {فأرسل معنا أخانا} يكتل له بعيرًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن مغيرة، عن أصحاب عبد الله رضي الله عنه: {فالله خير حافظًا}.
وأخرج سعيد بن منصور وأبو عبيد وابن المنذر، عن علقمة أنه كان يقرأ: {ردت إلينا} بكسر الراء.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا} يقول: ما نبغي هذه أوراقنا ردت إلينا، وقد أوفي لنا الكيل: {ونزداد كيل بعير} أي حمل بعير.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ونزداد كيل بعير} قال: حمل حمار. قال: وهي لغة. قال أبو عبيد يعني مجاهد أن الحمار، يقال له في بعض اللغات، بعير.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {الا أن يحاط بكم} قال: إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}
قوله تعالى: {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}: قرأ علقمة ويحيى والأعمش {رِدَّتْ} بكسر الراء على نَقْلِ حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء بعد تَوَهُّم خُلُوِّها مِنْ حركتها، وهي لغةُ بني ضَبَّة، على أن قطربًا حكى عن العرب نَقْلَ حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح فيقولون: ضِرْب زيدٌ بمعنى ضُرِب زيد، وقد تقدَّم ذلك في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} [الآية: 28] في الأنعام.
قوله: {مَا نَبْغِي} في {ما} هذه وجهان، أظهرهما: أنها استفهاميةٌ فهي مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأن لها صدرَ الكلام، أي: أيَّ شيءٍ نبغي. والثاني: أَنْ تكونَ نافيةً ولها معنيان، أحدهما: ما بقي لنا ما نطلب، قاله الزجاج. والثاني: ما نبغي، من البغي، أي: ما افْتَرَيْناه ولا كَذَبْنا على هذا المَلِكِ في إكرامه وإحسانه. قال الزمخشري: ما نبغي في القول وما نتزيَّد فيما وَصَفْنا لك من إحسان المَلِك.
وأَثْبَتَ القرَّاءُ هذه الياءَ في {نبغي} وَصْلًا ووقفًا ولم يَجْعلوها من الزوائد بخلاف التي في الكهف كما سيأتي: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64]. والفرق أنَّ {ما} هناك موصولةٌ فحُذِفَ عائدُها، والحذفُ يُؤْنِسُ بالحذف، وهذه عبارة مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعةِ يقولون: التغيير يُؤْنس بالتغيير بخلافها هنا فإنها: إمَّا استفهاميةٌ، وإمَّا نافيةٌ، ولا حَذْفَ على القولين حتى يُؤْنَسَ بالحذف.
وقرأ عبد اللَّه وأبو حيوة ورَوَتْها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم {ما تبغي} بالخطاب. وما تحتمل الوجهين أيضًا في هذه القراءة.
والجملةُ مِنْ قوله: {هذه بِضَاعَتُنَا} تحتمل أنْ تكونَ مفسِّرةً لقولهم {ما نبغي}، وأن تكونَ مستأنفةً.
قوله: {وَنَمِيرُ} معطوفٌ على الجملة الاسمية قبلها، وإذا كانت {ما} نافيةً جاز أن تُعْطَفَ على {نَبْغي}، فيكونَ عَطْفَ جملةٍ فعلية على مثلِها. وقرأت عائشة وأبو عبد الرحمن: {ونُمير} مِنْ أماره إذا جَعَلَ له المِيرة يُقال: ماره يَميره، وأماره يُمِيْره. والمِيرة: جَلْبُ الخير قال:
بَعَثْتُكَ مائِرًا فمكَثْت حَوْلًا ** متى يأتي غِياثُكَ مَنْ تُغِيْثُ

والبعيرُ لغةً يقع على الذَّكَر خاصةً، وأطلقه بعضُهم على الناقة أيضًا، وجعله نظيرَ إنسان، ويجوز كَسْرُ بائه إتباعًا لعينه، ويُجمع في القلة على أبْعِرَة، وفي الكثرة على بُعْران.
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}
قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ}: هذا جوابٌ للقسم المضمرِ في قوله: {مَوْثِقًا} لأنه في معنى: حتى تحلفوا لي لتأتُنَّني به.
قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} في هذا الاستثناء أوجه أحدُها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء، يعني فيكون تقديرُ الكلام: لكن إذا أحيط بكم خَرَجْتُمْ مِنْ عَتَبي وغضبي عليكم إن لم تَأْتوني به لوضوح عُذْركم.
الثاني: أنه متصل وهو استثناء مِن المفعول له العامِّ. قال الزمخشري: فإن قلت أخبرْني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال. قلت: {أَن يُحَاطَ بِكُمْ} مفعولٌ له، والكلامُ المثبت الذي هو قولُه: {لَتأْتُنَّني به} في معنى النفي معناه: لا تَمْتنعون من الإِتيان به إلا للإِحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ من العلل إلا لعلة واحدة وهي أنْ يُحاط بكم، فهو استثناءٌ مِنْ أَعَمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلابد مِنْ تأويله بالنفي، ونظيرُه في الإِثبات المتأوَّل بمعنى النفي قولهم: أقسمتُ باللَّه لمَّا فعلتَ وإلا فعلت، تريد: ما أطلبُ منك إلا الفعلَ ولوضوح هذا الوجهِ لم يذكر غيره.
والثالث: أن مستثنى مِنْ أعمِّ العامِّ في الأحوال. قال أبو البقاء: تقديره: لَتَأْتُنَّني به على كل حال إلا في حال الإِحاطة بكم. قلت: قد نَصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع موقعَ الحال، وإن كانَتْ مؤولةً بمصدر يجوز أن تقع موقع الحال، لأنهم لم يَغْتفروا في المُؤَول ما يَغْتفرونه في الصريح فيجيزون: جئتُك رَكْضًا، ولا يُجيزون: جئتك أن أركضَ، وإن كان في تأويله.
الرابع: أنه مستثنى من أعم العام في الأزمان والتقدير: لَتَأْتُنَّني به في كلِّ وقتٍ لا في وقت الإِحاطة بكم. وهذه المسألة تَقدَّم فيها خلافٌ، وأن أبا الفتح أجاز ذلك، كما يُجَوِّزه في المصدر الصريح، فكما تقول: أتيتُكَ صِياحَ الدِّيك يُجيز أنْ يَصيح الديك وجعل من ذلك قول تأبط شرًا:
وقالوا لا تَنْكِحيهِ فإنَّه ** لأَوَّلِ نَصْلٍ أن يُلاقِيَ مَجْمعا

وقولَ أبي ذؤيب الهذلي:
وتاللَّهِ ما إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واجدٍ ** بأوجدَ مني أن يُهانَ صغيرُها

قال: تقديره: وقتَ ملاقاتِه الجمعَ، ووقت إهانةِ صغيرها. قال الشيخ: فعلى ما قاله يجوز تخريجُ الآية، ويبقى لتأتُنَّني به على ظاهره من الإِثبات. قلت: الظاهر من هذا أنه استثناءٌ مفرغ، ومتى كان مفرَّغًا وَجَبَ تأويلُه بالنفي.
ومنع ابن الأنباري مِنْ ذلك في أنْ وفي ما أيضًا قال: فيجوز أن تقولَ: خروجُنا صياح الديك، ولا يجوز خروجُنا أن يصيحَ، أو: ما يصيح الديك: فاغتُفِر في الصريح ما لم يُغْتفر في المؤول. وهذا قياس ما قدَّمْتُه في مَنْع وقوع أنْ وما في حَيِّزها موقعَ الحال، ولك أَنْ تُفَرِّق ما بينهما بأن الحال تلزمُ التنكيرَ، وأنْ وما في حَيِّزها نَصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، فيُنافي وقوعَها موقعَ الحال بخلاف الظرف، فإنه لا يُشْترط تنكيرُه، فلا يَمْتنع وقوعُ أَنْ وما في حيزها موقعَه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}
بيّن يوسفُ عليه السلام أنه حين عاملهم لم يَحْتَجْ إلى عِوَضٌ يأخذه منهم، فلمَّا باعهم وجَمَعَ لهم الكيلَ ما أخذ منهم ثمنًا، والإشارة من هذا إلى قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنتُمْ لأِنفُسِكُمْ} [الإسراء: 7].
وكلُّ مَنْ خطا للدِّين خطوةً كافأه اللَّهُ تعالى وجازاه، فَجَمَع به بين رَوْحِ الطاعةِ ولذَّةِ العيش من حيث الخدمة.
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
إنَّ الحَذَرَ لا يُغْنى من القَدَر. وقد عَمِل يعقوب عليه السلام معهم في باب بنيامين ما أمكنه من الاحتياط، وأخذ الميثاق ولكن لم يُغْنِ عنه اجتهادُه، وحَصَلَ ما حكم به الله. اهـ.

.تفسير الآيات (67- 68):

قوله تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما سمح لهم بخروجه معهم، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلًا إخوة أهل جمال وبسطة، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع، فيصابوا بالعين، ولم يوصهم في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط، فقال حكاية عنه: {وقال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر: {يابني} محذرًا لهم من شر الحسد والعين-: {لا تدخلوا} إذا قدمتم إلى مصر: {من باب واحد} من أبوابها؛ والواحد على الإطلاق: الذي لا ينقسم، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف: {وادخلوا من أبواب} واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جدًا، فقال: {متفرقة} أي تفرقًا كبيرًا، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين- كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي، فإن العين حق، وهي من قدر الله، وقد ورد شرعنا بذلك، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجه: «يحضرها الشيطان وحسد بن آدم» ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: «إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإنما لتدرك الفارس فتدعثره» ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» قال الإمام الرازي: ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه.
وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها، لأنها من القدر، لا من من باب التحرز من القدر، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
معناه- والله أعلم: افعل فعل الأقوياء، ولا تفعل فعل العجزة، وذلك بأن تنعم النظر، تمعن في التأمل وتتأنى، حتى تعلم المصادر والموارد، فلا تدع شيئًا يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل عليه ولا يضرك إلا فعلته، ولا تدع أمرًا يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديرًا بأن لا تقول في نفسك: لو أني فعلت كذا، فإنك لم تترك شيئًا، وأما إذا فعلت فعل العجزة، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من لو.
ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر، نفى ذلك مبينًا أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه: إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسبابًا تضادها ويتأثر عنها المحذور، فقال: {وما أغني} أي أجزي وأسد وأنوب: {عنكم من الله} أي بعض أمر الملك الأعظم، وعمم النفي فقال: {من شيء} أي إن أراد بكم، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين، وهذا حكم التقدير، ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي ما: {الحكم} وهو فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة: {إلا الله} أي الذي له الأمر كله، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره، ولهذا المعنى- وهو أنه لا ينفع أصلًا سبب إلا بالله- أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه، وأمر بها أول كل شيء؛ وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب- رضى الله عنهم- أنه خطب الناس يومًا فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع.